كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً} هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِلْبَيِّنَةِ، أَيْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ تَعَالَى- أَضَافَهَا إِلَى اسْمِهِ الْكَرِيمِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ خَلَقَهَا عَلَى خِلَافِ سُنَنِهِ فِي خَلْقِ الْإِبِلِ وَصِفَاتِهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالِكٌ. وَالْمَعْنَى: أُشِيرُ إِلَيْهَا حَالَ كَوْنِهَا آيَةً لَكُمْ خَاصَّةً لَكُمْ. وَبَيَّنَ مَعْنَى كَوْنِهَا آيَةً بِقَوْلِهِ: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَمِثْلِهِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ إِلَّا أَنَّهُ وَصَفَ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ فَهُوَ أَلِيمٌ وَعَظِيمٌ- وَفِي هُودٍ إِلَّا أَنَّهُ وَصَفَ الْعَذَابَ بِالْقَرِيبِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَقَعُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ مَسِّهِمْ إِيَّاهَا بِسُوءٍ وَكَذَلِكَ كَانَ. وَفِي سُورَةِ الْقَمَرِ: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} (54: 28) وَفَسَّرَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (26: 155) وَهُوَ قَبْلَ الْوَعِيدِ عَلَى مَسِّهَا بِسُوءٍ. وَالشِّرْبُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ مَا يُشْرَبُ. وَفِي سُورَةِ الشَّمْسِ: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} (91: 11- 14) إِلَخْ. فَدَلَّ مَجْمُوعُ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ آيَةَ اللهِ تَعَالَى فِي النَّاقَةِ أَلَّا يَتَعَرَّضَ لَهَا أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ بِسُوءٍ فِي نَفْسِهَا، وَلَا فِي أَكْلِهَا وَلَا فِي شُرْبِهَا، وَأَنَّ مَاءَ ثَمُودَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاقَةِ إِذَا كَانَ مَاءً قَلِيلًا، فَكَانُوا يَشْرَبُونَهُ يَوْمًا وَتَشْرَبُهُ هِيَ يَوْمًا وَوَرَدَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعِيضُونَ عَنْهُ فِي يَوْمِهَا بِلَبَنِهَا، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ، فَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنِ الْأَوَّلِ فَهِيَ تَصْدُقُ بِمَاءٍ مَعِينٍ مَعْرُوفٍ كَانَ لِشُرْبِهِمْ خَاصَّةً؛ إِذْ ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ مُعَرَّفًا وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي مَرْفُوعًا.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنِ الثَّانِي فَفِيهَا أَنَّ الْمَاءَ كَانَ لَهُمْ وَلِمَاشِيَتِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَهُوَ بَعِيدٌ بَلْ مَنْقُوضٌ بِمَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مِنْ تَعَدُّدِ عُيُونِ الْمَاءِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ صَالِحٍ لَهُمْ: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} (26: 146- 148) وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ آبَارٌ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا النَّاقَةُ حِينَ مَرُّوا بِدِيَارِ قَوْمِ صَالِحٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْهَا وَيَهْرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ غَيْرِهَا مِنْ تِلْكَ الْآبَارِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَقَدْ عَلِمَهَا بِالْوَحْيِ. وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ يُحْتَجُّ بِهِ فِي خَلْقِ النَّاقَةِ مِنَ الصَّخْرَةِ أَوْ مِنْ هَضْبَةٍ مِنَ الْأَرْضِ كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ.
وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ إِضَافَةِ الْأَرْضِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمُبَاحَةُ لِلْأَنْعَامِ أَنْ تَرْعَى مَا يَنْبُتُ فِيهَا مِنَ الْكَلَإِ وَغَيْرِهِ دُونَ مَا يَزْرَعُهُ النَّاسُ وَيَحْمُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، وَفِيهِ مُرَاعَاةُ النَّظِيرِ بَيْنَ نَاقَةِ اللهِ وَأَرْضِ اللهِ، أَيْ: فَذَرُوا وَاتْرُكُوا نَاقَتَهُ تَأْكُلْ مِنْ أَرْضِهِ الَّتِي خَلَقَهَا وَأَبَاحَهَا لِخَلْقِهِ. وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ تَنْكِيرِ السُّوءِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ أَنَّ الْوَعِيدَ مُرَتَّبٌ عَلَى أَيِّ أَنَوْاعِ الْإِيذَاءِ لَهَا فِي نَفْسِهَا أَوْ أَكْلِهَا أَوْ شُرْبِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ وَقَدْ عَقَرُوهَا!.
{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} أَيْ وَتَذَكَّرُوا إِذْ جَعَلَكُمُ اللهُ تَعَالَى خُلَفَاءَ لِعَادٍ فِي الْحَضَارَةِ وَالْعُمْرَانِ وَالْقُوَّةِ وَالْبَأْسِ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ، أَيْ أَنْزَلَكُمْ فِيهَا وَجَعَلَهَا مَبَاءَةً وَمَنَازِلَ لَكُمْ: تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا زَاهِيَةً، وَدُورًا عَالِيَةً، بِمَا حَذَقْتُمْ بِإِلْهَامِهِ تَعَالَى مِنْ فُنُونِ الصِّنَاعَةِ كَضَرْبِ الْآجُرِّ وَاللَّبِنِ وَالْجَصِّ وَهَنْدَسَةِ الْبِنَاءِ وَدِقَّةِ النِّجَارَةِ. وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ أَيْ بَعْضَهَا كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {مِنَ الْجِبَالِ} (26: 149) بُيُوتًا بِمَا عَلَّمَكُمْ مِنْ فَنِّ النَّحْتِ، وَآتَاكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالصَّبْرِ، قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُنُونَ الْجِبَالَ فِي الشِّتَاءِ لِمَا فِي الْبُيُوتِ الْمَنْحُوتَةِ فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْأَمْطَارُ وَالْعَوَاصِفُ، وَيَسْكُنُونَ السُّهُولَ فِي سَائِرِ الْفُصُولِ لِأَجْلِ الزِّرَاعَةِ وَالْعَمَلِ، وَلَمْ تَكُنِ الْقُصُورُ فِيهَا مَتِينَةً وَلَا الطُّرُقُ مَرْصُوفَةً، بِحَيْثُ يَرْتَاحُ سُكَّانُهَا فِي أَيَّامِ الْأَمْطَارِ الشَّدِيدَةِ.
{فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أَيْ فَتَذَكَّرُوا نِعَمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَاشْكُرُوهَا لَهُ بِتَوْحِيدِهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا فِيهِ صَلَاحُكُمْ، وَلَا تَسْتَبْدِلُوا الْكُفْرَ بِالشُّكْرِ فَتَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. يُقَالُ: عَثَى يَعْثَى وَعَثِيَ يَعْثِي، مِنْ بَابَيْ ضَرَبَ وَعَلِمَ عَثْيًا وَعَثَيَانًا وَعَثَا يَعْثُو عَثَوًا بِمَعْنَى أَفْسَدَ وَكَفَرَ وَتَكَبَّرَ وَمِثْلُهُ مَقْلُوبَةٌ: عَاثَ يَعِيثُ عَيْثًا وَعَيَثَانًا. وَفِيهِ مَعْنَى الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ مَعَ الْإِفْسَادِ وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَيْثُ وَالْعَثْيُ يَتَقَارَبَانِ نَحْوَ جَذَبَ وَجَبَذَ إِلَّا أَنَّ الْعَيْثَ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الْفَسَادِ الَّذِي يُدْرَكُ حِسًّا، وَالْعَثْيُ فِيمَا يُدْرَكُ حُكْمًا اهـ. وَالْمَعْنَى: وَلَا تَتَصَرَّفُوا فِي هَذِهِ النِّعَمِ تَصَرُّفَ عَثَيَانٍ وَكُفْرٍ بِمُخَالَفَةِ مَا يُرْضِي اللهَ فِيهَا حَالَ كَوْنِكُمْ مُتَّصِفِينَ بِالْإِفْسَادِ ثَابِتِينَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ مُفْسِدِينَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا تُفِيدُ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى التَّأْكِيدِ كَمَا عَلِمْتَ.
{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينِ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ يَسْبِقَ الْفُقَرَاءُ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنَ النَّاسِ إِلَى إِجَابَةِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَاتِّبَاعِهِمْ وَإِلَى كُلِّ دَعْوَةِ إِصْلَاحٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا تَبَعًا لِغَيْرِهِمْ وَأَنْ يَكْفُرَ بِهِمْ أَكَابِرُ الْقَوْمِ الْمُتَكَبِّرُونَ، وَالْأَغْنِيَاءُ الْمُتْرَفُونَ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا مَرْءُوسِينَ، وَأَنْ يَخْضَعُوا لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي تُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْإِسْرَافَ الضَّارَّ. وَتُوقِفُ شَهَوَاتِهِمْ عِنْدَ حُدُودِ الْحَقِّ وَالِاعْتِدَالِ. وَعَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ جَرَى الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ صَالِحٍ فِي قَوْلِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قِيلَ: إِنَّ السُّؤَالَ لِلتَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِهِ اسْتِفْهَامًا حَقِيقِيًّا إِذْ سَأَلُوهُمْ عَنِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ لِارْتِيَابِهِمْ فِي اتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ عَنْ عِلْمٍ بُرْهَانِيٍّ، وَتَجْوِيزِهِمْ أَنْ يَكُونَ عَنِ اسْتِحْسَانٍ مَا وَتَفْضِيلٍ لَهُ عَلَيْهِمْ. وَاخْتِيَارٍ لِرِيَاسَتِهِ عَلَى رِيَاسَتِهِمْ.
{قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} أَيْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ دُونَ مَا يُخَالِفُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ مُصَدِّقُونَ بِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى وَمُذْعِنُونَ لَهُ بِالْفِعْلِ. فَإِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ الَّذِي يَجْزِمُ بِهِ الْعَقْلُ. وَيَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ. وَتَخْضَعُ لَهُ الْإِرَادَةُ، وَتَعْمَلُ بِهَدْيِهِ الْجَوَارِحُ، وَكَانَ مُقْتَضَى مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ أَنْ يَقُولُوا نَعَمْ، أَوْ نَعْلَمُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ، أَوْ إِنَّا بِرِسَالَتِهِ عَالِمُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَجَابُوا بِمَا يَسْتَلْزِمُ هَذَا الْمَعْنَى وَيَزِيدُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِذَلِكَ عِلْمًا يَقِينِيًّا إِذْعَانِيًّا لَهُ السُّلْطَانُ عَلَى عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، إِذْ آمَنُوا بِهِ إِيمَانًا صَادِقًا كَامِلًا صَارَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِمُ الرَّاسِخَةِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْهَا أَعْمَالُهُمْ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَعْلَمُ شَيْئًا يَصِلُ عِلْمُهُ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ. بَلْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُ الشَّيْءَ بِالْبُرْهَانِ وَهُوَ يَنْفُرُ مِنْهُ بِالْوُجْدَانِ. فَيَجْحَدُهُ وَيُحَارِبُهُ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهِ. اسْتِكْبَارًا عَنْهُ أَوْ حَسَدًا لِأَهْلِهِ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (27: 14).
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} وَلَمْ يَقُولُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ كَافِرُونَ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ أَصْلِ الرِّسَالَةِ لَهُ، وَلَوْ قَالُوهُ لَكَانَ شَهَادَةً مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ جَاحِدُونَ لِلْحَقِّ عَلَى عِلْمٍ لِمَحْضِ الِاسْتِكْبَارِ.
{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} أَصْلُ الْعَقْرِ الْجَرْحُ، وَعَقْرُ الْإِبِلِ قَطْعُ قَوَائِمِهَا، وَكَانُوا يَعْقِرُونَ الْبَعِيرَ قَبْلَ نَحْرِهِ لِيَمُوتَ فِي مَكَانِهِ وَلَا يَنَدَّ، ثُمَّ صَارَ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى النَّحْرِ، وَهُوَ طَعْنُهُ فِي الْمَكَانِ الْمَعْرُوفِ مِنْ حَلْقِهِ بِالْمَنْحَرِ. أُسْنِدَ الْعَقْرُ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْكَافِرِينَ، وَقِيلَ: إِلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ مِنَ الْقَبِيلَةِ- وَالْمُتَعَاطِي لَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ- لِأَنَّهُ بِتَوَاطُئِهِمْ وَرِضَاهُمْ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْقَمَرِ: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} (54: 29) وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا «فَانْتَدَبَ لَهَا رَجُلٌ ذُو عِزٍّ وَمَنْعَةٍ فِي قَوْمِهِ كَأَبِي زَمْعَةَ» وَمِثْلُ هَذَا مِنْ أَعْمَالِ الْأُمَمِ يُنْسَبُ إِلَيْهَا فِي جُمْلَتِهَا، كَمَا أَنَّهَا تُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي جُمْلَتِهَا، وَلَوْ بَقِيَ الصَّالِحُونَ فِيهَا لَأَصَابَهُمُ الْعَذَابُ {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (8: 25) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عَاقِرَ النَّاقَةِ قَالَ: لَا أَقْتُلُهَا حَتَّى تَرْضَوْا أَجْمَعِينَ فَجَعَلُوا يَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي خِدْرِهَا فَيَقُولُونَ: أَتَرْضِينَ؟ فَتَقُولُ: نَعَمْ، وَعَلَى الصَّبِيِّ... حَتَّى رَضُوا أَجْمَعِينَ فَعَقَرُوهَا.
{وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أَيْ تَمَرَّدُوا مُسْتَكْبِرِينَ عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ رَبِّهِمْ، ضَمِنَ الْعُتُوُّ مَعْنَى الِاسْتِكْبَارِ، وَالْعُتُوُّ فِي اللُّغَةِ: التَّمَرُّدُ وَالِامْتِنَاعُ، وَيَكُونُ عَنْ ضَعْفٍ وَعَجْزٍ وَمِنْهُ عَتَا الشَّيْخُ وَبَلَغَ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا: إِذَا أَسَنَّ فَامْتَنَعَ مِنَ الْمُوَاتَاةِ عَلَى مَا يُرَادُ مِنْهُ- وَعَنْ قُوَّةٍ وَعُتُوٍّ كَوَصْفِ الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ بِالْعَاتِيَةِ، وَمِنْهُ عُتُوُّ الْجَبَّارِينَ وَالْمُسْتَكْبِرِينَ، وَتُوصَفُ النَّخْلَةُ الْعَالِيَةُ بِالْعَاتِيَةِ لِامْتِنَاعِهَا عَلَى مَنْ يُرِيدُ جَنَاهَا إِلَّا بِمَشَقَّةِ التَّسَلُّقِ وَالصُّعُودِ. رَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ حَسَّنَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجْرِ قَالَ: «لَا تَسْأَلُوا الْآيَاتِ فَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ وَكَانَتِ النَّاقَةُ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَكَانَتْ تَشْرَبُ يَوْمًا وَيَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا، فَعَقَرُوهَا فَأَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَهْمَدَ اللهُ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا كَانَ فِي حَرَمِ اللهِ- وَهُوَ أَبُو رُغَالٍ- فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ».
{وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} نَادَوْهُ بِاسْمِهِ تَهْوِينًا لِشَأْنِهِ وَتَعْرِيضًا بِمَا يَظُنُّونَ مِنْ عَجْزِهِ، وَقَالُوا! ائْتِنَا بِمَا أَوْعَدْتَنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَلَا تَزَالُ مُصِرًّا عَلَيْهِ وَمُعَلِّقًا لَهُ عَلَى مَسِّ النَّاقَةِ بِسُوءٍ- إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى وَتَدَّعِي أَنَّ وَعِيدَكَ تَبْلِيغٌ عَنْهُ- وَاسْتَعْمَلَ الْوَعْدَ فِي الشَّرِّ لِأَنَّهُ عَامٌّ.
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الرَّجْفَةُ الْمَرَّةُ مِنَ الرَّجْفِ، وَهُوَ الْحَرَكَةُ وَالِاضْطِرَابُ يُقَالُ رَجَفَ الْبَحْرُ إِذَا اضْطَرَبَتْ أَمْوَاجُهُ، وَرَجَفَتِ الْأَرْضُ زُلْزِلَتْ وَاهْتَزَّتْ وَرَجَفَ الْقَلْبُ وَالْفُؤَادُ مِنَ الْخَوْفِ، وَفِي حَدِيثِ الْوَحْيِ: فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ يَرْجُفُ بِهَا فُؤَادُهُ، وَفِي سُورَةِ هُودٍ: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} (11: 67) وَنَحْوِهِ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ اللَّفْظَيْنِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. فَقِيلَ: الصَّيْحَةُ صَيْحَةُ جِبْرِيلَ رَجَفَتْ مِنْهَا قُلُوبُهُمْ، وَقِيلَ: بَلِ الرَّجْفَةُ الزَّلْزَلَةُ أَخَذَتْهُمْ مِنْ تَحْتِهِمْ، وَالصَّيْحَةُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الصَّيْحَةَ سَبَبًا، لِلزَّلْزَلَةِ وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ مِثْلَ السَّيِّدِ الألوسي وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ وَاسِعُ الِاطِّلَاعِ يَنْقُلُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ بِمَا ذَكَرَ، وَيُصَحِّحُ بِحَقِّ التَّعْبِيرِ عَنِ الصَّيْحَةِ الْعَظِيمَةِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ بِالطَّاغِيَةِ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ، وَيَنْسَى كَالَّذِينَ نَقَلَ عَنْهُمْ أَنَّهَا الصَّاعِقَةُ وَهِيَ الْأَصْلُ كَمَا وَرَدَ فِي سُورَةِ: حم السَّجْدَةِ- فُصِّلَتْ وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} (41: 17) وَالثَّانِي: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} (51: 44) وَلِنُزُولِ الصَّاعِقَةِ صَيْحَةٌ شَدِيدَةُ الْقُوَّةِ وَالطُّغْيَانِ، تَرْجُفُ مِنْ وَقْعِهَا الْأَفْئِدَةُ وَتَضْطَرِبُ أَعْصَابُ الْأَبْدَانِ، وَرُبَّمَا اضْطَرَبَتِ الْأَرْضُ وَتَصَدَّعَ مَا فِيهَا مِنْ بُنْيَانٍ وَسَبَبُهَا اشْتِعَالٌ يُحْدِثُهُ اللهُ تَعَالَى بِاتِّصَالِ كَهْرَبَائِيَّةِ الْأَرْضِ بِكَهْرَبَائِيَّةِ الْجَوِّ الَّتِي يَحْمِلُهَا السَّحَابُ، فَيَكُونُ لَهُ صَوْتٌ كَالصَّوْتِ الَّذِي يُحْدِثُهُ بِاشْتِعَالِ قَذَائِفِ الْمَدَافِعِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْهَوَاءِ، وَهَذَا الصَّوْتُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالرَّعْدِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَأَمَّا الصَّاعِقَةُ فَهِيَ الشَّرَارَةُ الْكَهْرَبَائِيَّةُ الَّتِي تَتَّصِلُ بِالْأَرْضِ فَتُحْدِثُ فِيهَا تَأْثِيرَاتٍ عَظِيمَةً بِقَدْرِهَا، كَصَعْقِ النَّاسِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَمَوْتِهِمْ، وَهَدْمِ الْمَبَانِي أَوْ تَصْدِيعِهَا، وَإِحْرَاقِ الشَّجَرِ وَالْمَتَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. هَذَا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُ الْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَمِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ عِلْمَهُمْ بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِيهِ هَدَاهُمْ إِلَى اتِّقَاءِ ضَرَرِ الصَّوَاعِقِ فِي الْمَبَانِي الْعَظِيمَةِ بِوَضْعِ مَا يُسَمُّونَهُ قَضِيبَ الصَّاعِقَةِ عَلَيْهَا، فَيَمْتَنِعُ بِسُنَّةِ اللهِ نُزُولُهَا بِهَا. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ الْقَادِرُ الْمُقَدِّرُ قَدْ جَعَلَ هَلَاكَهُمْ فِي وَقْتٍ سَاقَ فِيهِ السَّحَابَ الْمُتَشَبَّعَ بِالْكَهْرَبَاءِ إِلَى أَرْضِهِمْ بِأَسْبَابِهِ الْمُعْتَادَةِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَقَ تِلْكَ الصَّاعِقَةَ لِأَجْلِهِمْ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، وَأَيًّا مَا كَانَ الْوَاقِعُ فَالْآيَةُ قَدْ وَقَعَتْ وَصَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ فِي إِنْذَارِ قَوْمِهِ.
{فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} دَارُ الرَّجُلِ مَا يَسْكُنُهُ هُوَ وَأَهْلُهُ مُؤَنَّثَةٌ وَتَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى عِدَّةِ بُيُوتٍ، وَالْبَلَدُ دَارٌ لِأَهْلِهِ، وَدَارُ الْإِسْلَامِ الْوَطَنُ الَّذِي تُنَفَّذُ فِيهِ شَرَائِعُهُ وَهِيَ دَارُ الْعَدْلِ الَّذِي يُقِيمُهُ الْإِمَامُ الْحَقُّ، وَيُقَابِلُهَا دَارُ الْكُفْرِ وَدَارُ الْحَرْبِ. وَالْجُثُومُ لِلْإِنْسَانِ والطَّيْرِ كَالْبُرُوكِ لِلْإِبِلِ، فَالْأَوَّلُ وُقُوعُ النَّاسِ عَلَى رُكَبِهِمْ وَخَرُورُهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَالثَّانِي وُقُوعُ الطَّيْرِ لَاطِئَةً بِالْأَرْضِ فِي حَالِ سُكُونِهَا بِاللَّيْلِ، أَوْ قَتْلِهَا فِي الصَّيْدِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا وَقَدْ وَقَعَتِ الصَّاعِقَةُ بِهِمْ أَنْ سَقَطُوا مَصْعُوقِينَ، وَجَثَمُوا هَامِدِينَ خَامِدِينَ. {وَأَصْبَحُوا} إِمَّا بِمَعْنَى صَارُوا وَإِمَّا بِمَعْنَى دَخَلُوا فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ أَيْ حَالَ كَوْنِهِمْ جَاثِمِينَ.
{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} فِي سُورَةِ هُودٍ أَنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْهَلَ قَوْمَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَتَمَتَّعُونَ فِيهَا بَعْدَ عَقْرِ النَّاقَةِ، فَلَمَّا انْتَهَتْ أَنْجَاهُ اللهُ تَعَالَى وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَأَنْزَلَ الْعَذَابَ بِالْبَاقِينَ الظَّالِمِينَ بَعْدَ إِنْجَائِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِنْجَاءُ مِنْ عَذَابِ صَيْحَةِ الصَّاعِقَةِ الطَّاغِيَةِ الْمُتَجَاوِزَةِ لِلْحَدِّ الْمُعْتَادِ بِالْبُعْدِ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَوَلَّى عَنْهُمْ عَقِبَ هَلَاكِهِمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ، وَالْمَعْهُودُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ تَتَقَدَّمَ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى مَا قَبْلَهَا فِي الذِّكْرِ، كَتَقَدُّمِ مَدْلُولِهَا بِالْفِعْلِ، وَلَكِنْ عُهِدَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَرْكُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْمَعَانِي لِنُكَتٍ فِي الْكَلَامِ، وَلاسيما كَلَامٌ يُعْرَفُ فِيهِ التَّرْتِيبُ بِالضَّرُورَةِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا فِي الظُّهُورِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْآيَتَيْنِ هُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ إِعْذَارِ صَالِحٍ إِلَى قَوْمِهِ بِإِبْلَاغِهِمُ الرِّسَالَةَ وَمَحْضِهِمُ النَّصِيحَةَ، وَمِنْ تَسْجِيلِهِ عَلَيْهِمْ أَفْنَ الرَّأْيِ وَفَسَادَ الْأَخْلَاقِ بِكُرْهِ النَّاصِحِينَ وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِمْ- إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ التَّوَلِّي وَالِانْصِرَافِ عَنْهُمْ أَوْ عِنْدَهُ وَلَكِنْ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ.